الوفاء والكرم

النعمان صورة مقاله، وفهم حقيقة حاله، ورأى تلهفه على ضياع أطفاله،
رقّ له ورثي لحاله، غير أنه قال: لا آذن لك حتى يضمنك رجل معنا،
فإن لم ترجع قتلناه، وكان شريك بن عدي ابن شرحبيل نديم النعمان معه، فالتفت الطائي إلى شريك وقال له:
يــا شريــك بن عـــدي ** ما من الموت انهزام
مــن الأطفــال ضعـاف ** عدمـــوا طعم الطعام
بيــن رجــوع وانتظار ** وافتقـــــــارا وسقام
يـــا أخـــا كــــلِّ كريم ** أنت مــــن قوم كرام
يا أخا النعمان جُدْ لي ** بضمــــــان والتـزام
ولــــك الله بأنــــــــي ** راجــع قبـــل الظـلام
فقال شريك بن عدي أصلح الله الملك، عليّ ضمانه،
فمر الطائي مسرعاً، وصار النعمان يقول لشريك: إن صدر النهار قد ولى، ولم يرجع، وشريك يقول: ليس للملك عليّ سبيل حتى يأتي المساء، فلما قرب المساء قال النعمان لشريك قد جاء وقتك،
قم فتأهب للقتل، فقال شريك: هذا شخص قد لاح مقبلاً، وأرجو أن يكون الطائي، فإن لم يكن فأمر الملك ممتثل، قال فبينما هم كذلك، وإذا بالطائي قد اشتد عدوه في سيره مسرعاً حتى وصل.
فقال خشيت أن ينقضي النهار قبل وصولي، ثم وقف قائماً وقال أيها الملك مر بأمرك. فأطرق النعمان، ثم رفع رأسه وقال: والله ما رأيت أعجب منكما، أما أنت يا طائي
فما تركت لأحد في الوفاء مقاماً يقول فيه، ولا ذكراً يفتخر به، وأما أنت يا شريك فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء، فلا أكون الأم الثلاثة،
ألا وإني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس، ونقضت عادتي كرامة لوفاء الطائي، وكرم شريك، فقال الطائي:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي ** فعددت قولهم من الإضلال
إني امرؤٌ فيَّ الوفـــــاء سجيـة ** ,فعــال كل مهـذب مفضـال
فقال له النعمان: ما حملك على الوفاء وفيه إتلاف نفسك؟
فقال: ديني، فمن لا وفاء فيه لا دين له.
فأحسن إليه النعمان، ووصله بما أغناه، وأعاده مكرمًا إلى أهله، وأناله ما تمنَّاه.
🍂 المستطرف 1/287، 288
🍂
إن مثل هذه الأخلاق الراقية في الوفاء والكرم نحن بحاجة إليها الآن،